كانت غرناطة آخر المعاقل التي سقطت في الأندلس، وقبل رحيل آخر ملوكها عقد معاهدة مع ملك إسبانيا على أن يترك للمسلمين حريتهم في دينهم ولغتهم، ولكن الأسبان نكثوا عهودهم ومارسوا سياسة البطش لتحويل المسلمين إلى النصرانية.يقول العالم محمد بن عبد الرفيع الذي حضر هذه المأساة وأنجاه الله منها: "أطلعني الله على دين الإسلام بواسطة والدي -رحمة الله عليه- وأنا ابن ستة أعوام وأقل، مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسني حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام.
فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز كأني أنظر الآن إليه مملَّساً من غير طَفَل ولا غيره، فكتب لي فيه حروف الهجاء في كرّتين.
فلما فرغ من الكرة الأولى أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي وجميع قرابتنا، وأمرني أن لا أخبر أحداً من الخلق ثم شدد علَّي الوصية، وصار يرسل والدتي إليَّ فتسألني: "ما الذي يعلمك والدك؟ "، فأقول لها: "لا شيء"، فتقول: "أخبرني بذلك ولا تخف لأني عندي الخبر بما يعلمك"، فأقول لها: "أبداً ما هو يعلمني شيئاً". وكذلك كان يفعل عمي وأنا أنكر أشد الإنكار.
ثم أروح إلى مكتب النصارى، وآتي الدار فيعلمني والدي إلى أن مضت مدة فأرسل إليَّ من إخوانه في الله الأصدقاء فلم أقر لأحد قط بشيء، مع أنه - رحمه الله - تعالى- قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة. لكن أيدنا الله - سبحانه وتعالى - بتأييده وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته بين أظهر أعداء الدين".
قلت (شكيب أرسلان) فهمنا من هنا أن هؤلاء الجماعة كانوا أُجبروا على النصرانية طراً، وإنما كانوا باقين في الغالب على الإسلام سراً، وكانوا مضطرين أن يرسلوا أطفالهم حتى من سن أربع سنوات إلى مكاتب النصارى، ولم يكن يباح لهم أن يعلموا أولادهم شيئاً عن الإسلام، ومن كان يقدم على ذلك وكانت الحكومة تعلم به كان يحرق بالنار.
وبرغم هذا كله كان بعضهم حريصاً على تعليم أولاده عقيدته الإسلامية ولغته العربية فكان يعلمهم ذلك مع أشد الاحتياط والامتحان خشية أن السلطة تأخذ سر الأمر من الأولاد فتحرق أولئك الوالدين بالنار كما هو قرار ديوان التفتيش الكاثوليكي.
ويتابع ابن عبد الرفيع: "وقد كان والدي - رحمه الله - تعالى- يعلمني حينئذ ما كنت أقوله عند رؤيتي للأصنام وذلك أنه قال لي: "إذا أتيت إلى كنائسهم ورأيت الأصنام فاقرأ في نفسك سراً قوله - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [الحج: 73] و ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ) [الكافرون: 1] إلى آخرها وغير ذلك من الآيات الكريمة.
وقوله - تعالى -: ( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) [النساء: 156-158].
فلما تحقق والدي - رحمه الله - تعالى- أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي وبعض أصحابه الأصدقاء فقط.
وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سني فرح غاية الفرح وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام فاجتمعت بهم واحداً واحداً".